إيماناً من القيادة العليا لبﻼدنا العزيزة بأهمية التطوير والتحديث المستمر للنظم اﻹدارية، بما يتوافق مع معطيات التنمية والتطور اﻹداري والعلمي والتقني الذي نعيشه، تتخذ القيادة العليا قرارات إدارية تهدف إلى تطوير اﻷداء اﻹداري والتنظيمي لمختلف القطاعات، ومن ضمن تلك القرارات القريبة، الموافقة بإنشاء وزارة للمياه، قيام الهيئة العليا للسياحة، إنشاء المجلس اﻻقتصادي اﻷعلى،... الخ، وفي سياق التطوير اﻹداري شكلت لجنة عليا للتطوير أو اﻻصﻼح اﻹداري برعاية صاحب السمو الملكي اﻷمير سلطان بن عبدالعزيز النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء ووزير الدفاع والمفتش العام، وبعضوية حشد من الخبرات اﻹدارية المتميزة، ونتوقع بأن لجنة اﻻصﻼح اﻹداري وغيرها من الجهات التي تدرس عملية التحديث والتطوير اﻹداري بشكل مستمر ﻻ زال في جعبتها الكثير من اﻷفكار التطويرية، التي ستأخذ طريقها للتنفيذ، حال اﻻنتهاء من دراستها وإقرارها، ولن أسعى هنا إلى تعداد التطورات اﻹدارية وما هو متوقع اتخاذه في هذا الجانب، ولكن اطرح رؤية في مجال التطوير اﻹداري المحلي، وهي رؤية يشجعني عليها هذه المناخات المتاحة لنا لطرح الرأي الذي نعتقد إيجابيته وضرورته لمسيرة التنمية والتطوير.في البدء هناك مﻼحظات جديرة بالتأمل في التنظيمات اﻹدارية المحلية وهي:أوﻻً غالبية خطوات التطوير اﻹداري الكبرى التي تم اتخاذها في العقود الزمنية الماضية تركزت في استحداث اجهزة إدارية جديدة، والنتيجة لذلك هي توسع وتشعب الجهاز اﻹداري المحلي بشكل كبير، والغريب هنا هو استمرارية المطالبة بالتوسع، حيث نجد على مستوى الوزارات من يطالب بإنشاء وزارة للثقافة ومن يطالب بوزارة للتقنية ومن يطالب بوزارة للرياضة ومن يطالب بوزارة للتراث... الخ.ثانياً: صاحب التوسع اﻷفقي في عدد اﻻجهزة الحكومية العليا، توسع رأسي ضمن مؤسسات وأجهزة القطاع العام، توسع يبرز بالذات في المجال التوظيفي والتشعب اﻹداري بصفة عامة..ثالثاً: ذلك التوسع اﻷفقي والرأسي قاد ويقود إلى ازدواجية وتداخل في المهام على مستوى القطاع وفيما بين القطاعات المختلفة، وإلى مزيد من العمل البيروقراطي والروتيني اﻹداري وكذا إلى حدوث فجوات في المسؤوليات والمهام والتنظيم والتنفيذ.رابعاً: نتيجة ﻻستمرارية التوسع والتشعب في المهام والوظائف، نكاد نفتقد التعريف الدقيق ﻷهداف ورسالة كل جهاز أو قطاع حكومي على حدة، فبعضها تجاوز الهدف الرئيسي ﻹنشائه، أو لم يحقق أهدافه المرسومة عند اﻹنشاء، أو انحرفت اعماله عن اﻷهداف والرسالة المرسومة له حين إنشائه، وأدى ذلك إلى تعقيد العمل التنظيمي والتخطيطي والرقابي والتنفيذي لتلك اﻻجهزة وللقطاع الحكومي بصفة عامة، ﻷنه لم تعد هناك خطوط واضحة لعمل كل جهاز ولتنظيم كل قطاع.خامساً: أدى التوسع اﻷفقي في تعدد الوزارات وبالتالي تعدد الحقائب الوزارية، إلى تضخم اللجان العليا بصفة عامة، كنتيجة حتمية فعلى سبيل المثال لو أردنا دراسة موضوع يتعلق بالقوى العاملة يصبح لزاما علينا إشراك أعضاء من وزارة الخدمة المدنية، وزارة العمل، وزارة التعليم العالي، مجلس القوى العاملة.. الخ، بينما لو كانت قطاعات القوى العاملة تنضوي تحت جهاز رسمي واحد لما احتجنا لهذا العدد من اﻷعضاء أو لما احتجنا تشكيل لجنة تنسيقية عليا... بل انني ومع تقديري للمجالس واللجان العليا، فإنني أراها تأثرت بهذا التوسع، حيث يخشى ان أدى تعددها وازدياد أعضائها بشكل كبير إلى اعاقة وتأخير صدور بعض القرارات الحيوية، وبالذات حينما نعلم بأن اصحاب السمو والمعالي والسعادة اعضاء المجالس العليا غالبا ما تكون لديهم مهام متعددة ومسؤوليات متنوعة.ذلك التوسع وما قد يقود إليه من هدر اقتصادي وتعقيد إداري، يقودنا إلى طرح رأي يطالب بالعودة إلى مبدأ تصغير القطاع الحكومي أفقيا ورأسيا، دون اﻻخﻼل بالمهام الرئيسية وهو ما يتطلب خطوات محددة نرى منها ما يلي:أوﻻً: إعادة تعريف وتحديد أهداف وأدوار كل وزارة أو جهاز حكومي عام بشكل منفرد ومراجعة انحراف وتطور ذلك عن الهدف والمسار الذي انشئ ﻷجله الجهاز، سواء كان ذلك التطور في اهمال بعض مهام القطاع الرئيسية، أو التوسع في أداء مهام ليست من صلب اهتمام الجهاز المراد تقييمه.ثانياً: تحديد اﻻزدواجية والتشابه والتداخل بين اﻷجهزة الحكومية المختلفة، في النواحي اﻹدارية والتنظيمية والتنفيذية، ومسببات اﻻزدواجية تلك، وبالتالي تقليص ما يستوجب التقليص وتوحيد ما يستوجب التوحيد ضمن القطاعات المختلفة.ثالثاً: النظر بجدية في تصغير حجم الجهاز اﻹداري المحلي أفقيا ورأسيا، بتقليص عدد اﻷجهزة الحكومية وكذا بتقليص الوظائف واﻹدارات سواء كان ذلك عبر الدمج بين وزارات أو اجهزة حكومية أو باﻹلغاء وإعادة تحديد المهام وفق ذلك.وحتى تتضح الصورة التي أريد إيصالها، اطرح هنا بعض اﻷمثلة التي يمكن من خﻼلها ايضاح المقصود من المقترحات أعﻼه، وهي أمثلة ربما طرح بعضها ضمن سياق مواضيع مختلفة.المثال اﻷول: قطاع التعليم العامفي مجال التعليم اﻻساسي، نلحظ وجود ثﻼثة أجهزة حكومية تشرف على هذا القطاع وهي وزارة المعارف والرئاسة العامة لتعليم البنات وجامعة اﻹمام محمد بن سعود اﻹسﻼمية، فهذه اﻷجهزة من الناحية اﻹدارية تكرر بعضها البعض ولديها ازدواجية عملية غير مبررة من الناحية اﻹدارية واﻻقتصادية والتنظيمية والتنفيذية، فتعدد اﻷنظمة التعليمية من بنين وبنات وديني وفني ﻻ يبرر تعدد اﻻجهزة الحكومية ويمكن الحفاظ على ذلك التعدد متى تثبت ايجابيته في ظل جهاز إداري واحد، تتفرع عنه مسارات اﻷنظمة التعليمية المختلفة، وبالتالي يسهل توحيد السياسة واﻻستراتيجية التعليمية بدﻻ من تشتت مصادرها كما هو حاصل اﻵن، ويتم ضمان عدم وجود ثغرات فيما بين تلك اﻷجهزة، كما يسهم في تحسين اﻻداء اﻹداري واﻻقتصادي بالدرجة اﻷولى.المثال الثاني: قطاع القوى العاملةلدينا وزارتان معنيتان بالقوى العاملة وزارة الخدمة المدنية وهي المعنية بموظفي الدولة ووزارة العمل والشؤون اﻻجتماعية وهي المعنية بالوظائف اﻷهلية أو وظائف القطاع الخاص ويضاف إليهما ما يقوم به مجلس القوى العاملة في مجال توطين الوظائف، والسؤال اﻹداري هنا، هل يمكن توحيد تلك اﻻجهزة أو ما يختص منها بعملية العمل والعمال والتوظيف والوظائف تحت إدارة جهاز إداري واحد، وزارة القوى البشرية أو العاملة على سبيل المثال، تعنى بقضية الوظيفة والعمل في كافة قطاعات الدولة أهلية كانت أو حكومية، خاصة كانت أو عامة؟ ألم يؤد تعدد اﻷجهزة التوظيفية في وجود الثغرة القائمة بين الوظيفة الحكومية واﻷهلية؟ لماذا إذاً ﻻ تردم هذه الفجوة بتوحيد الجهاز اﻻشرافي على قضية القوى العاملة بصفة عامة.المثال الثالث: قطاع التعليم العالي والبحث العلميحاليا توجد لدينا وزارة التعليم العالي تشرف على الجامعات فقط، ولدينا المؤسسة العامة للتعليم الفني تشرف على التعليم التقني وتوجد كليات المعلمين وكليات البنات وكليات الصحة تتبع قطاعات إدارية مختلفة، وفي مجال البحث توجد لدينا مدينة الملك عبدالعزيز وهي رديف مساند للجامعات ولكن دون طﻼب أو مهام تعليمية.. ترى لماذا ﻻ يعاد ترتيب بيت التعليم العالي وتوحد جهة اﻻشراف على التعليم العالي أو ما فوق الثانوي والبحث العلمي؟ ومرة أخرى الحديث هنا عن التنظيم اﻹداري وليس عن إلغاء المسارات التعليمية والبحثية المختلفة حيث نحن بحاجة إليها جميعا، ولكننا ننشد توحيد السياسة العلمية البحثية في التعليم العالي وإلغاء اﻻزدواجية والهدر اﻻقتصادي واﻹداري الحاصل ضمن القطاعات القائمة حاليا، وبالتالي توجيه الموارد نحو استثمار افضل في مجال التعليم العالي.اكتفي وﻻ أحصر الموضوع باﻷمثلة أعﻼه، التي تم إيرادها، ليس بهدف البحث عن تقصير جهاز أو شخص إداري بذاته، وانما لتوضيح فكرة الدمج لبعض القطاعات وتصغير حجم القطاع الحكومي، مع اﻷخذ في اﻻعتبار بأن مصطلح اﻹلغاء لجهاز إداري قائم قد ﻻ يكون محببا للبعض ولذا نفضل استخدام مصطلح الدمج لﻸجهزة المعنية بقطاع واحد رئيسي والمتشابهة المهام، كما أشير إلى انني ﻻ أغفل بعض الصعوبات اﻹدارية والتنظيمية المتوقعة نتيجة القيام بمثل هذه الخطوات، والتي يمكن التغلب عليها وفق وضع الخطط الزمنية والتنظيمية الﻼزمة لذلك.أحد أبرز الصعوبات المتوقعة أو التي سمعتها من اﻵخرين عند مناقشة فكرة الدمج هذه، تتلخص في القناعات السائدة بأن الدولة ﻻ تلغي أو تقلص الوظائف وﻻ تجبر شخصاً لﻼنتقال من عمله إلى آخر، أو حتى اﻻستغناء عن خدمات موظف حكومي أو منصب حكومي مرموق، وﻻبد هنا من وضع البدائل والخطط المناسبة لذلك، بما في ذلك: التهيئة اﻻجتماعية لخطوات التغيير؛ تحوير الوظائف ونقلها للجهات المحتاجة إليها، كاﻷجهزة اﻹدارية الحديثة "مثال وزارة المياه والهيئة العليا للسياحة"؛ إيجاد خطة زمنية تطويرية في هذا الشأن تتبنى حلوﻻ مناسبة وعادلة كدعم نظام تقاعدي مبكر استثنائي وإعادة تدريب الكفاءات التي سيستغنى عنها للقيام بأعمال أخرى ﻻ زلنا بحاجة إلى توطين الوظائف فيها؛ توحيد نظامي التقاعد والتأمينات اﻻجتماعية لتسهيل انتقال موظف القطاع الحكومي للقطاع الخاص؛ زيادة آليات استقطاب القطاع الخاص وامتصاصه للوظائف الزائدة والملغاة عن طريق الجهاز الحكومي... إلى آخره من الحلول التي تتطلب الدراسة ووضع الخطط الزمنية الﻼزمة.أخيراً أكرر تقديرنا لجهود الجهات المعنية بالتطوير واﻻصﻼح اﻹداري، كلجنة اﻻصﻼح اﻹداري، ولكننا في نفس الوقت نطالبها بفتح مزيد من أبواب الحوار مع القيادات اﻹدارية ومع الجهات اﻷكاديمية والخبرات ذات العﻼقة، لمعرفة مختلف اﻵراء وبلورتها إلى خطط تطويرية مناسبة، وذلك عبر اللقاءات المفتوحة والمغلقة وعبر ورش العمل والمنتديات العلمي