يتسم العالم اليوم بسرعة التغيير تلك السمة التي أضحت ميزة لجميع أوجه النشاط البشري وإدارته للمنظمات المختلفة.نتج عن هذا السباق المحموم انحراف إداري واضح في إدارة المنظمات نتيجة تجاوزه قيم الحق والخير والعدل، بل أضحى استغﻼل هذه القيم مطية لتحقيق مآرب أخرى وسمة تميز إدارة المنظمات عامة والدولية منها على وجه الخصوص، وﻻ تخرج كثير من المنظمات اﻹقليمية والمحلية عن هذا السلوك. وﻻ يقتصر اﻷمر على المنظمات العامة فقط، بل المنظمات الخاصة، وﻻ يكاد يخلو قطاع من القطاعات المختلفة في الدولة عن صور اﻹدارة المختلة، بل تكاد تكون هذه سمة تميز المنظمات عامة.يعتبر ترجيح الجانب السالب من تيار العولمة*Globalizationوسيطرة اﻻتجاه المادي، وتجاهل القيم الفاضلة والمُثل العليا من أكثر العوامل تأثيراً على زيادة اﻻنحراف اﻹداري بالمنظمات، وعلى سلوك اﻷفراد فيها، وبالتالي على أخﻼقيات اﻹدارة.يُضاف إلى ما سبق تباين الثقافات وحدّة الضغوط التنافسية بين المنظمات، واللهث وراء تكوين الثروات واكتنازها من خﻼل تعظيم الربح المادي بفرض نُظم معينة على إدارة النشاط اﻻقتصادي بصفة خاصة، وعلى إدارة السوق بصفة أخص.أدت جميع العوامل السابقة إلى اضمحﻼل القيم السامية واﻷخﻼق الفاضلة التي ينبغي أن تسود على سلوك الفرد في المنظمات التي ينتمي إليها، وهو ما دعت إليه جميع القيم واﻷعراف السليمة والرساﻻت السماوية حتى ختمت بأكملها كما بيّن ذلك حديث خاتم اﻷنبياء: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّمَا بُعِثْتُ ﻷُتَمِّمَ صَالِحَ اﻷَخْﻼقِ)[1].أدى اﻻنحراف اﻷخﻼقي عما ينبغي ﻹدارة المنظمات إلى إزكاء روح اﻷنانية بينها من جانب، وبين العاملين على مستوى المنظمة الواحدة من جانب آخر، مما أزكى اتجاه التمحور حول الذات، وزاد من حدة التوتر وتفجير بؤر الصراع في جميع المنظمات وخاصة منظمات اﻷعمال باعتبارها أداة إدارة السوق وآلية تعظيم الربح المادي.طوّر هذا الوضع من نظريات المؤامرة والكيد والتوجس وعدم الطمأنينة، وساهم بشكل فاعل في انتشار المنظمات الرقابية لمراقبة النشاط البشرى في المنظمات.قادت الصورة السابقة إلى السؤال التالي: كيف يمكن بناء نظم إدارية تسودها اﻷخﻼق الفاضلة والقيم العليا لتجنب المنظمات أوجه اﻻنحراف السابقة، وتغني عن الدور الرقابي الذي تمثله كثير من المنظمات المُختصة، والتي نشأت حديثاً نتيجة عدم توفر الوضع اﻷخﻼقي اﻷمثل للنظم اﻹدارية.وقبل اﻹجابة على هذا السؤال ﻻ بد من تعريف إجرائي يحدد مفهوم أخﻼقيات اﻹدارة، حتى يتثنى المقاربة بين المفهوم النظري والتطبيق العملي لهذا المفهوم على المنظمات عامة ومنظمات اﻷعمال على وجه الخصوص.أخﻼقيات اﻹدارة.. المعنى والمفهوم:الخٌلق لغة لفظ يُطلق على الطبع أو السجية، وهو يُشكّل صورة اﻹنسان الباطنة مثلما يُشكل الخلق - بفتح الخاء وسكون الﻼم - صورة اﻹنسان الظاهرة[2]. واصطﻼحاً يعرفه حجة اﻹسﻼم أبو حامد الغزالي بأنه (هيئة في النفس راسخة، عنها تصدر اﻷفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر وروية)[3]. واﻷخﻼق هي مجموعة القيم والمعايير التي يعتمد عليها أفراد المجتمع في التمييز بين ما هو جيد وما هو سيئ، وتمييز ما هو صواب وما هو خطأ[4]، وهي منطلقات للتمييز بين ما هو جيد - الفضيلة - وبين ما هو سيئ - الرذيلة - غير أن شارلز جاريت وجونز يشيران في كتابهما اﻹدارة اﻻستراتيجية إلى أن الغرض من اﻷخﻼق في مجال العمل ليس فقط لتعلم الفرق بين الصواب والخطأ، ولكن لتسليح اﻷفراد باﻷدوات الﻼزمة للتعامل مع تعقيد السلوك اﻷخﻼقي، تلك اﻷدوات التي يمكن أن يستخدموها للتفكير والتعرف أثناء التطبيق اﻷخﻼقي للقرارات اﻹستراتيجية[5].عليه يمكن القول إن اﻷخﻼق وسيلة لتدريب اﻷفراد على فن التعامل مع السلوك المنظم، ومن هذه التعريفات تُعتبر اﻷخﻼق*(Ethics)وليدة ثقافة المجتمع، التي تعتبر بدورها ناتج البناء اﻻجتماعي، ومن ثم نجد ربطاً وثيقاً بين أخﻼقيات اﻹدارة والمكون اﻻجتماعي، ذلك البُعد الذي يُشكل السلوك اﻹداري في المنظمات.تأسيساً على ذلك، يمكننا القول إن أخﻼق المجتمع تُعتبر أساس أخﻼقيات اﻹدارة، كما أن أخﻼقيات اﻹدارة تنبع من أخﻼقيات المجتمع، ذلك ﻷن اﻹدارة ﻻ تقوم على فراغ، بل هي بيئة حية متفاعلة بين المنظمة ووسطها.وتقاس حضارة اﻷمم والشعوب بأخﻼقها كما قال الشاعر:إنما اﻷمم اﻷخﻼق ما بقيت فإن هم ذهبت أخﻼقهم ذهبواواﻷخﻼق مقدمة على العلم، ﻷن العلم دون أخﻼق ﻻ ينفع، وهذا ما يستشف من دعوة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم (اللهم إني أعوذ بك من علم ﻻ ينفع)، وهو العلم الذي ﻻ يقوم على اﻷخﻼق والقيم الفاضلة ﻹصﻼح المجتمع وتسخير الحياة لعبادة الله في اﻷرض، وفي هذا يقول الشاعر:العلم يا قوم ينبوع السعادة كم هدى وكم فـك أغــﻼﻻً وأطواقـافعلمـوا النشء علماً يستبين بـه سبل الحياة وقبل العلم أخﻼقـاولقد بيّن دستور اﻹنسانية الجامع القرآن الكريم صفة النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم، الذي بنى أعظم صرح لﻸخﻼق الفاضلة على اﻹطﻼق، ذلك الصرح الذي ساهم في بناء أفضل مجتمع عرفته البشرية، فقال تعالى في وصف هذا النبي {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} القلم 4. وكان خلقه صلى الله عليه وسلم القرآن كما ورد في الحديث، حيث صار امتثال القرآن أمراً ونهياً سجية له وخلقاً تطبّعه مع ما جلبه الله عليه من خلق عظيم من الحياء والكرم والصفح وكل خلق جميل[6].والناظر في القرآن الكريم والسنة المطهرة يمكن أن يحصي من القيم واﻷخﻼق ما هو كفيل ببناء أجود النظم وأكفأها على اﻹطﻼق، كيف ﻻ؟ وذلك تقدير العزيز العليم وما آل إليه حال معظم منظمات اليوم من فساد في اﻹدارة والقيادة وازدواج في المعايير مرده إلى مجانبتها للمنهج القرآني في اﻷخﻼق والمثال النبوي في السلوك.إن تحقيق الخلق اﻹداري وفقاً للمنهجية اﻹسﻼمية يقتضى تطبيق قيمتي الحق والعدل، والتوظيف اﻷمثل لما يمكن أن نطلق عليه الميمات الثﻼث لﻺدارة، وهي: المنظمة والمنهج والموارد، وتوظيف المنظمة يتم باعتبارها وسيلة لتحقيق غاية المجتمع أوﻻً ومصلحتها ومصلحة اﻷفراد العاملين فيها ثانياً، والتي يجب أن يراعى فيها عدم طغيان إحداهما على اﻷخرى، إنما القسط في أمانات تؤدى بعدل كما قال الله عز وجل: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ اﻷَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} النساء 58.وأمثلية المنهج اﻹداري اﻹسﻼمي تقوم على اتباع المنهج القاصد إلى الله عز جل، والذي تحكمه قواعد الشرع كضروريات ومصالح الجميع كحاجيات، وتزينه مكارم اﻷخﻼق كمحسّنات، حيث قال الله عز وجل: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَاﻹِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} النحل90.أما اﻻستغﻼل اﻷمثل للموارد فيتم من خﻼل توظيفها بكفاءة تحقق رفاهية المجتمع مع المحافظة على أصلها وبيئتها من غير إسراف وﻻ تلف حيث قال الله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ اﻵخِرَةَ وَﻻ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَﻻ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي اﻷَرْضِ إِنَّ اللَّهَ ﻻ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} القصص77.إن هذه القيم والمثل العليا ﻻ تتوفر في كثير من إدارة المنظمات اليوم خاصة في العالم الذي يرى أنه امتلك ناصية العلم.تعريف أخﻼقيات اﻹدارة:عرف ريو بيارز*Rue Byars*أخﻼقيات اﻹدارة بأنها (مجموعة من المعايير والمبادئ التي تهيمن على السلوك اﻹداري وتتعلق بما هو صحيح وما هو خطأ). ونﻼحظ في هذا التعريف أن الصحيح والخطأ معايير نسبية تختلف من مجتمع ﻵخر ما لم تحكمها مرجعية عليا تعترف لكمالها جميع المجتمعات البشرية.ويري إيفانسيج (Ivancenich) وزمﻼؤه أن أخﻼق اﻹدارة (تمثل خطوطاً توجيهية للمدبرين في صنع القرار).يتفق هذا التعريف مع سابقه من حيث مبدأ النسبية، إذ أن هذه الخطوط التوجيهية هي سياسات عامة ﻻبد لها من استراتيجية كلية تشتق منها، وفي نفس الوقت تسعي لتحقيقها.يشير فان فالوك*Van Valock إلى البعد المنهجي ﻷخﻼقيات اﻹدارة باعتبارها (الدراسة المنهجية للخيار اﻷخﻼقي حتى يتم من خﻼلها ما هو جيد)[7]. أما بيتر ف داركر Peter F Darker*- من أشهر كتاب اﻹدارة في القرن الحادي والعشرين - فيركز على البعد الموضوعي ﻷخﻼقيات اﻹدارة بكونها علماً مراعياً لﻼعتبار المادي ويعرفها على أنها (العلم الذي يعالج اﻻختيارات العقلية على أساس التقييم بين الوسائل المؤدية إلى اﻷهداف)[8].عليه يمكن أن نعرف أخﻼقيات اﻹدارة بأنها مجموعة القيم والمبادئ الفاضلة والمعايير الصادقة والتي تشتق من العقيدة الصحيحة وتحكم السلوك اﻹداري لتحقق كفاءة المنظمة ورضا أصحاب المصلحة.إن بناء اﻷخﻼق على أساس عقائدي ضمان لتثبتها واستقرارها وعدم العبث بها، وهو أمر ﻻزم. كما عبّر عن ضرورة ذلك الشيخ محمود شلتوت بقوله (إن العقيدة دون خلق، شجرة ﻻ ظل لها وﻻ ثمرة، وإن الخلق دون عقيدة ظل لشبح غير مستقر)[9].واﻷخﻼق في الفلسفة اﻹسﻼمية تنتقل باﻹنسان من مجال العقيدة إلى مجال الشريعة من العبادات والمعامﻼت والعﻼقات، فهنالك أخﻼق تتعلق بصلة الفرد بنفسه كالحياء واﻹتقان والصبر، ومنها ما يتعلق بصلة اﻹنسان بخالقه كالطاعة و التعظيم والشكر والتواضع وعدم اﻻستكبار، ومنها ما يتعلق بصله الفرد باﻵخرين كاﻹحسان وأداء الواجب وحسن العشرة والتعاون على البر والتقوى والعدل